الكمبيوتر والإنترنت وضعا حدّاً للمفاهيم التجريدية

الكمبيوتر والإنترنت وضعا حدّاً للمفاهيم التجريدية

450980


هناك «إنسان جديد» رأى النور، يقول الأكاديمي الفرنسي ميشال سيريس، إنه كائن لقبه بمؤنث «الإبهام الصغير»، نظرا لقدرته على بعث الرسائل الهاتفية القصيرة بواسطة إبهامه. إنه يمثل تلاميذ اليوم، الذين يعيشون في رحم تسونامي حقيقي، ناتج عن التحول الهائل الذي يعرفه العالم حولهما. نحن نمر بمرحلة تتميز بانقلاب كبير مماثل لنهاية الإمبراطورية الرومانية أو لعصر النهضة.

وعلى «الإبهام الصغير» أن يتأقلم بسرعة فائقة، سرعة تفوق تلك التي كانت مفروضة على آبائه وأجداده بكثير. إننا في حضرة تحول جذري يصحبنا ميشال سيريس بأحكامه القاسية على المؤسسات والأحزاب السياسية وكل ما تبقى من الآليات، التي هدفها انتخاب الرؤساء بلا مبادئ سامية. والمؤلف صادق، بحكم تجربته وصرامة أفكاره في حكمه على أزمة التدريس الحالية، وهو مصيب أيضا في نظرته إلى تحولات اللغة، وتحولات الفكر أيضا.

إن الراحة والسهولة في الوصول إلى المعلومات، سمحت للجيل الجديد – مثل جميع أفراد العالم – بتعبئة جيوبها ومناديلها بالمعرفة. إذا في إمكان الأجساد أن تخرج وتتحرر من الكهوف التي يسيطر عليها الصمت والانتباه وانحناء الظهر، وهي تستلقي على كراسي، تبدو وكأنها مربوطة إليها بسلاسل حديدية.

كان المدرج في السابق بمنزلة حقل للقوى، مركزها الرئيسي، هي تلك المصطبة التي تقابل الكراسي وشاشة العرض التي تعرض عليها المعرفة. هنا يتمركز الثقل وليس في الجوانب.

أصبحت المعرفة اليوم مبعثرة في كل مكان ومنتشرة في فضاء متناسق، لقد تحررت الحركات، تم إلغاء مركز الثقل، كما ماتت قاعة التدريس التي كانت في ذلك الزمان، وإن ما زلنا نراها كما كانت عليه في السابق، وانه لا يزال المجتمع يصر على فرضها إلى غاية اليوم.

إذاً، أصبحت الأجساد تتحرك وتدور وتومئ وتدعو وتستدعى وتتبادل المعرفة التي كانت تحتويها جيوبهم ومناديلهم، فهل حلت «الدردشة» محل الصمت، والفوضى والصخب محل عدم الحركة؟

لا، لقد تحرر شباب الجيل الجديد من سجنهم ومن قيود الكهف والسلاسل التي كانت تفرض عليهم الصمت وعدم الحركة في أماكنهم.

الحركة

ويمكن أن نقول إن مركز الصف أو المدرج يشبه السيارة، ففي القطار أو الطائرة، حيث يجلس المسافرون في القاطرات، على الكراسي، السائق أو الطيار هو من يقود القاطرة أو قمرة القيادة نحو المعرفة. هل ترون الآن جسد المسافر؟! إنه مترهل، عيونه تحدق وكسول وخامل.

وعلى العكس من ذلك فسائق السيارة، وإن كان ظهره منحنيا، إلا انه منتبه ويقود بنشاط سيارته، وقد وضع يديه فوق المقود.

حين يستعمل الجيل الجديد الكمبيوتر أو الهاتف النقال، يتطلب هذان الجهازان جسد قائد نشط وليس جسد مسافر خامل وكسول: اننا في وضعية الطلب وليس العرض. وإذا ما ألقينا هذه الفتاة في قاعة للدرس وهي المتعودة على القيادة فلن يتحمل جسدها طويلا مكان المسافر السلبي، ما الذي يحدث لها يا ترى؟!

سيزيد نشاطها، ولأنها محرومة من آلة القيادة، تدردش وتتكلم، لكن ما إن تضعوا جهاز الكمبيوتر بين يديها، فستجد نفسها في مكان الطيار أو قائد المركبة مجددا.

أصبح هناك عدد كبير من القائدين، بينما تراجعت المهارات الحركية، وأصبح هناك متفرجون كثر: فالمسرح ممتلئ بالممثلين والحركة، وأصبح هناك عدد كبير من القضاة في المحكمة، لا شيء سوى متكلمين نشطين، فقد زاد عدد الكهنة في مذبح الكنيسة، وامتلأ المعبد بالرهبان، فيما زاد عدد الأساتذة في المدرجات.. الأساتذة في كل مكان وعلينا أن نقول أيضا إن عدد الأقوياء في الحلبة السياسية زاد، في حين كان أصحاب الهمة والعزم من يسيطرون عليها.

لقد انتهى زمن صناع القرار.

البحث عن المعرفة

يبحث الجيل عن المعرفة في آلتها. لكن هذه المعرفة معروضة بشكل مجزأ ومقسم. إنه يفتح صفحة تلو الصفحة، لأن كل المعلومات موزعة بشكل منظم ومرتب، ولكل علم له فروعه ومختبراته ومجموعته من الكتب وأساتذته. فالنهر – مثلا – يتلاشى بفعل عوامل جغرافية وجيولوجية وجيوفيزيائية ومائية، وأخرى لها علاقة بعلم البلورات وبيولوجيا الأسماك وعلم المناخ، علاوة على زراعة السهول المسقية وتاريخ المدن الرطبة. حين نخلط وندمج هذه المعلومات المتناثرة ونجعل من هذه العناصر الأجسام الحية للتيار، فسيسمح لنا الوصول السهل الى المعرفة بالعيش في النهر ومعرفته معرفة جيدة.

لكن، كيف ندمج كل هذه التصنيفات، وكيف نتخلص من الحدود ونجمع صفحات هي في الأصل مقسمة، وكيف نضع مخططات الجامعة ونوحد المدرجات ونجمع 20 قسما؟.. وما الذي نفعله، كي يتوافق بعض الخبراء أصحاب المستوى العالي، كل واحد منهم يعتقد أنه يملك التعريف الحصري للذكاء؟!

كيف نحول فضاء المدينة الجامعية التي تحاكي معسكر الجيش الروماني، فكلاهما محاط بطرق عادية وموزع إلى أفواج وحدائق متجاورة؟!

الإجابة: باستماعنا إلى الصوت العميق الصادر عن العالم والشعوب، وباتباعنا الحركات الجديدة للأجساد، وبمحاولتنا شرح المستقبل باستخدام التكنولوجيات الجديدة. لكن، كيف ذلك مجدداً؟

بطريقة أخرى: هل علينا أن نرسم الحركات «البراونية»، أي الحركات العشوائية؟! أم هل نستطيع – على الأقل – تحفيزها فقط، مثلما فعل رجل الأعمال الفرنسي أرستيد بوسيكوت؟!

فلسفة الصفوف

قام بوسيكوت مؤسس «لوبون مارشي» – وهو أول متجر كبير فرنسا – في البداية بتصنيف السلع التي يبيعها وفق رفوف وأجنحة مرتّبة. لقد رتّب كل علبة في مكانها مثلما يوزع التلاميذ في الصفوف وجنود الكتائب الرومانية في معسكرهم. وتعني كلمة «صف» في الأصل ذلك الجيش الواقف بشكل منظم.

كان المحل الكبير يضم كل شيء يلبي رغبة السيدات ورغبة طلبة الجامعة الراغبين في التعلم، وكان يجمع كل شيء من المواد الغذائية إلى الألبسة ومواد التجميل.. بسرعة نجح المتجر وأصبح بوسيكوت ثريا.

ويروي إميل زولا في روايته «سعادة السيدات»، التي خصصها لرجل الأعمال هذا، والذي أصيب بخيبة أمل، بعد أن استقرت أرباحه لفترة طويلة.

ذات صباح، استيقظ هذا الرجل وقرر تغيير ترتيب المتجر بشكل عشوائي.. فأصبحت السيدة التي تأتي لشراء الكراث من أجل تحضير الشوربة، تشتري فجأة ومن دون أي برمجة الدانتيل، وتنتهي السيدة «جدة فتاة الجيل الجديد» بشراء حلي إلى جانب الخضروات.. فارتفعت المبيعات بشكل كبير جدا.

أحيانا، يمكن أن يسجننا النظام، رغم انه يحفز الحركة.

لنتبع فتاة الجيل الجديد في ألعابها ولنستمع إلى حدس بوسيكوت الذي طبقته كل المحلات منذ ذلك الحين، ولنقلب ترتيب العلوم، لنضع قسم الفيزياء إلى جانب الفلسفة، وقسم اللسانيات قبالة الرياضيات، وقسم الكيمياء مع علم البيئة.

كان الناس يحلمون بجامعة متنوعة، فيها كل الألوان والأصناف، جامعة حقيقية ومزدهرة مثل المنظر الطبيعي، لكنهم اجبروا على الركض بعيدا للذهاب إلى الآخر.

من يتحدون الترتيب والنظام يخترعون، بينما لم تؤدي الطرق شبه العقلانية إلى أي شيء. كيف، إذن نعيد رسم الصفحة؟

علينا أن نغير المنطق. والفعل الفكري الأصلي الوحيد، هو الاختراع. علينا أن نفضل إذاً المتاهات الالكترونية والفوضى. تكتب فتاة الجيل الجديد: «ليحيا بوسيكوت ولتحيا جدتي».

المفهوم التجريدي

وماذا عن المفاهيم؟ هل يصعب تشكيلها أحيانا؟ قولي لي: أي شيء عن الجمال؟ تجيب فتاة الجيل الجديد «سيدة جميلة، فرس جميلة، شفق جميل.. توقفي، لنرى، اطلب منك مفهوما، هل يمكن أن تذكري لي ألف مثال، لن تنتهي أبدا من ذكر قائمة الفتيات».

لم يكن أبدا باستطاعتنا كتابة أو قراءة صفحات أو كتب، لو استطعنا ذكر كل الجميلات بأعدادهن. وعليه من الأفضل أن أضع حدا للصفحة وأتحدث عن عدد غير محدود، هنا المفهوم التجريدي يغلق الباب.

هل ما زلنا بحاجة إلى ذلك؟

آلاتنا تعرض بسرعة لدرجة أن ما باتت تعرضه أصبح غير محدود، لكنها تعرف كيف تتوقف، ولو أننا نستطيع استخدام صورة الضوء لتوضيح المعرفة، لاختار أجدادنا ذلك، لكنهم اهتموا بسرعته، لكن محرك البحث يمكن أحيانا أن يعوض التجريد.

لقد تغير موضوع المعرفة. لم نعد بحاجة إلزامية الى المفهوم، لكننا أحيانا – وليس دائما – يمكن أن نتوقف طويلا أمام بعض القصص.

وبعد أن أصبح عالم الرياضيات خبيرا في الفوضى، فلن يستطيع من الآن فصاعدا تحقير علوم الحياة والأرض التي تدرس في فرنسا، والتي تُطبق خليط بوسيكوت، لأنها تدرس عدة مواد بطريقة مدمجة، لا نستطيع فصل بعضها عن بعض.

لكن مرة اخرى، لا يزال النظام المنطقي مفيدا، لكنه أحيانا يترك مكانه لمنطق جديد يقوم على الفوضى الطبيعية.

لقد زلزلت الهندسة المعمارية حواجز المدن الجامعية وقلبتها.

أصبحت المواضيع أكثر تجددا من الأشياء، وبات تجددها بسرعة الضوء في محاولة للبحث عن منطق آخر، فما عاد نشر العلم والمعرفة يحتاج المدينة الجامعية المنظمة، التي تحاكي معسكرات الجيش الروماني.. هنا يسكن الفكر. انه يسكن في الجسد والروح.

العلامات المتبادلة

هل يقوم الجيل الجديد بوضع علامات لأساتذته؟ هذا السؤال أثار جدلا ونقاشا كبيرين في فرنسا، وأنا – ومنذ أربعين عاما – يقوم طلبة في جامعات اخرى بتقييمي، لكني لا أشعر بسوء من هذا الأمر. لماذا؟ ببساطة لأن من يحضرون الدرس يقيمون الأستاذ يوميا.

هذا الصباح كان هناك عدد كبير من الطلبة في المدرج، ما حال دون انتباه ثلاثة او أربعة منهم، بسبب الفوضى والأحاديث الجانبية أثناء الدرس، بينما يتطلب الشرح صمت الجميع حتى يبدع الأستاذ.

والأفضل أن يتقبل الجميع أن يمنحه الآخر نقطة، العشيق من عشيقته الصامتة والتاجر من الزبائن ووسائل الإعلام من الجمهور والطبيب من مرضاه والمنتخب من خلال عقاب الناخبين.

لقد غادرت حمى التنقيط المدارس بسرعة لتنتقل وتنتشر في المجتمع المدني، الذي لا يتوانى في نشر قوائم أفضل المبيعات، وفي توزيع جوائز نوبل والأوسكار والكؤوس، وفي تصنيف الجامعات وتنقيط البنوك والمؤسسات، وحتى الدول.

وأنت تطوي الصفحة – أيها القارئ الآن – ستقيّمني بالتأكيد.

انه شيطان بوجهين، هذا الذي يدفع للحكم على هذا بأنه جيد أو سيئ، بريء أو ضار.

هاري بوتر

طفل برمنغهام الصغير هاري بوتر كان لا يفارق الآلة البخارية، التي كان يشغلها لصرف مياه المناجم، لم يكن بوتر يستطيع مفارقة الآلة لدقيقة واحدة، لذلك اخترع سلسلة ربط بها أجزاء تشغيل الآلة، مما سمح له بالابتعاد عنها واللعب.

تكشف هذه القصة ذكاء الولد وعبقريته، لكنها بالنسبة إلي تبين كفاءته وحرصه وتكيفه مع الوضع، وهو العامل القاصر، عكس صناع القرار البعيدين كل البعد عن الواقع وعمّن تحتهم، ممن يعتقدون أنهم غير أكفاء.

وهاري بوتر هو واحد من أسماء الحرب التي تحترمها فتاة الجيل الجديد، التي تحاول مراقبة عملها ونشاطها في الوقت الحقيقي، إنها ترصد العطل بسهولة وتصلحه، ولها من الحلول التقنية السريعة ما يكفي لحل عدد كبير من المشاكل، مما يسمح لها بتحسين إنتاجيتها، وأيضا متابعة الجميع من مسؤولين وحتى أطباء وسياسيين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق